سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


اختلف المفسرون في هذه الآية في الإنفاق، فعبارة أكثرهم أن الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة، وإن أسرف، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقاً عليه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة الإسراف أن تنفق مال غيرك. ونحو هذه الأقوال التي هي غير مرتبطة بلفظ الآية، وخلط الطاعة والمعصية بالإسراف والتقتير فيه نظر، والوجه أن يقال أن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليله وكثيره، وكذلك التعدي على مال الغير، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك، وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات وفي المباحات، فأدب الشرع فيها أن لا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا وأن لا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوسطها، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يتصدق بجميع ماله لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ومنع غيره من ذلك، ونعم ما قال إبراهيم النخعي وهو الذي لا يجيع ولا يعري ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف، وقال يزيد بن حبيب هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للذة، وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له عمر الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يُقتِروا} بضم الياء وكسر التاء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد وحفص عن عاصم {يَقتِروا} بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الياء، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة وعاصم بخلاف، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح التاء، وقرأ أبو عمرو {والناس قَواماً} بفتح القاف، أي معتدلاً، وقرأ حسان بن عبد الرحمن بكسر القاف أي مبلغاً وسداداً وملاك حال، و{قواماً} خبر {كان} واسمها مقدر أي الإنفاق، وجوز الفراء أن يكون اسمها قوله {بين ذلك}. وقوله تعالى: {والذين لا يدعون} الآية إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً، وفي نحو هذه الآية قال عبد الله بن مسعود: قلت يوماً يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال أن تزاني حليلة جارك»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
قال الفقيه الإمام القاضي: والقتل والزنا يدخل في هذه الآية العصاة من المؤمنين ولهم من الوعيد بقدر ذلك، والحق الذي تقتل به النفس هو قتل النفس والكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان والكفر الذي لم يتقدمه إيمان في الحربيين، والأثام في كلام العرب العقاب وبه فسر ابن زيد وقتادة هذه الآية ومنه قول الشاعر: [الوافر]
جزى الله ابن عروة حيث أمسى *** عقوقاً والعقوق له أثام
أي جزاء وعقوبة، وقال عكرمة وعبد الله بن عمرو ومجاهد إن {أثاماً} واد في جهنم هذا اسمه وقد جعله الله عقاباً للكفرة، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يضاعفْ ويخلدْ} جزماً، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر والحسن {يضعّفْ} بشد العين وطرح الألف وبالجزم في {يضعَفْ ويخلدْ}، وقرأ طلحة بن سليمان {نضعِّف} بضم النون وكسر العين المشددة {العذابَ} نصب {ويخلد} جزم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {يضاعفُ ويخلدُ} بالرفع فيهما، وقرأ طلحة بن سلمان {وتخلد} بالتاء على معنى مخاطبة الكافر بذلك، وروي عن أبي عمرو {ويُخلَّد} بضم الياء من تحت وفتح اللام قال أبو علي وهي غلط من جهة الرواية {ويضاعفْ} بالجزم بدل من {يلق} قال سيبويه مضاعفة العذاب هي الأثام قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ***
البيت وقوله {إلا من تاب} الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك} [النساء: 48] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة، وقاله سعيد بن جبير، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت {إلا من تاب} الآية، ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت، ورواه أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى: {يبدل الله سيئاتهم حسنات}.
معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهو معنى كرم العفو، وقرأ ابن أبي عبلة {يبْدِل} بسكون الباء وتخفيف الدال.


أكد بهذه الألفاظ أمر التوبة والمعنى {ومن تاب} فإنه قد تمسك بأمر وثيق وهكذا، كما تقول لمن تستحسن قوله في أمره لقد قلت يا فلان قولاً، فكذلك الآية معناها مدح المتاب كأنه قال فإنه يجد باباً للفرج والمغفرة عظيماً، ثم استمرت الآيات في وصف عباد الله المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور، و{يشهدون} في هذا الموضع ظاهر معناها يشاهدون ويحضرون، و{الزور} كل باطل زور وزخرف فأعظمه الشرك وبه فسر الضحاك وابن زيد، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي المعنى لا يشهدون بالزور فهو من الشهادة لا من المشاهدة والزور الكذب.
قال الفقيه الإمام القاضي: والشاهد بالزور حاضره ومؤديه جرأة، فالمعنى الأول أعم لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى، واللغو كل سقط من فعل أو قول يدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين وذكر النساء وغير ذلك من المنكر، و{كراماً} معناه معرضين مستحين يتجافون عن ذلك ويصبرون على الأذى فيه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «لقد أصبح ابن أم عبد كريماً»، وقرأ الأية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغير، وحدود التغيير معروفة وقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم} ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله: {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} يحتمل تأويلين: أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجداً وبكياً، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً مقدماً. وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق، أو الشاك، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صماً وعمياناً هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجداً، ولكن أصله أنه على غير ترتيب، ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية، وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمانهم أحبابهم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن {ذرياتنا}، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى {ذريتنا} بالإفراد.
وقوله تعالى: {للمتقين إماماً} قيل هو جمع، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.


قرأ أبي كعب {يجازون} بألف، و{الغرفة} من منازل الجنة وهي الغرفة فوق الغرف وهو اسم الجنة كما قال: [الهزج]
ولولا الحبة السمراء *** لم نحلل بواديكم
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {ويُلَقّون} بضم الياء وفتح اللام وشد القاف وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم وطلحة ومحمد اليماني ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم {ويلْقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختلف عن عاصم وقوله {حسنت مستقراً ومقاماً} معادل لقوله في جهنم {ساءت} وقوله: {قل ما يعبؤوا بكم} الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بذلك، و{ما} تحتمل النفي وتحتمل التقرير والكلام في نفسه يحتمل تأويلات أحدها أن تكون الآية إلى قوله {لولا دعاؤكم} خطاباً لجميع الناس فكأنه قال لقريش منهم أي ما يبالي الله بكم ولا ينظر إليكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وقال النقاش وغيره المعنى لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك فذلك هو عرف الناس المرعي فيهم، وقرأ ابن الزبير وغيره {فقد كذب الكافرون} وهذا يؤيد أن الخطاب بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون العذاب والتكذيب الذي هو سبب العذاب لزاماً، والثاني أن يكون الخطاب بالآيتين لقريش خاصة أي {ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} الأصنام آلهة دونه فإن ذلك يوجب تعذيبكم، والثالثة وهو قول مجاهد أي ما يعبأ ربكم بكم لولا أن دعاكم إلى شرعه فوقع منكم الكفر والإعراض.
قال القاضي أبو محمد: والمصدر في هذا التأويل مضاف إلى المفعول وفي الأولين مضاف إلى الفاعل و{يعبأ} مشتق من العبء، وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش، وقرأ ابن الزبير {وقد كذبت الكافرون فسوف}، قال ابن جني قرأ ابن الزبير وابن عباس الخ... {فقد كذب الكافرون}، قال الزهراوي وهي قراءة ابن مسعود قال وهي على التفسير وأكثر الناس على أن اللزام المشار إليه في هذا الموضع هو يوم بدر وهو قول أبي بن كعب وابن مسعود، والمعنى فسوف يكون جزاء التكذيب، وقالت فرقة هو تعوذ بعذاب الآخرة، وقال ابن مسعود اللزام التكذيب نفسه أي لا تعطون توبة ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس أيضاً اللزام الموت وهذا نحو القول ببدر وإن أراد به متأول الموت المعتاد في الناس عرفاً فهو ضعيف، وقرأ جمهور الناس {لِزاماً} بكسر اللام من لوزم وأنشد أبو عبيدة لصخر الغي: [الوافر]
فإمّا ينجوا من حتف أرض *** فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقرأ أبو السمال {لَزاماً} لفتح اللام من لزم والله المعين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7